يجب ان نعترف ونقر بان عقلنا البشري مهما تقدم وارتقى له قدرة محدود، انه لون من الوان الطاقات المختلفة التي حبانا الله بها نحن المخلوقات الحية ، قد نستطيع ان نكتشف دواء قاتلا لنوع معين من المكروبات ، وقد نجد وسيلة جراحية لاستئصال جزء فاسد او مريض من جسم الانسان ، وفد نعطي العاقر او العقيم دواء معيناً ليشفيها من العقم في بعض الاحيان ، لكن هل نستطيع ان نتحكم في نوع الجنين ؟؟؟
كان الاستاذ مصطفى سعيداً عندما رزقه الله تعالى بابنته الاولى ، ولم يهتم عندما رزقه الله بالبنت الثانية ثم الثالثة ، لكن عندما ولدت زوجته البنت الرابعة شعر بغير قليل من الحنق والغيظ ، فقد شعر برغبة حارقة في ان تنجب امرأته ذكراً بعد هذه السنوات من الزواج ... هو لا يدري لماذا هذه الرغبة الشديدة ؟ هل لان مجتمعنا قد ترسبت في اعماقه عقدة المرأة .. ثم التقاليد القديمة والنظرة البالية لكل ما ياتي من النساء ، وارتباطهن بقيم الشرف والفضيلة والطهر والعفاف ، ثم العار الذي يلحقهن إذا ما سقطن في الرذيلة ، وارتكبن حماقة من الحماقات .. ام لان المجتمع ما زال ينظر الى الرجل على انه حامي الحمى والمدافع عن الحي او القبيلة ...
ومع كل ذلك فقد تظاهر مصطفى بالرضى والهدوء وابتسم في وجه زوجته ، وهنأها بسلامة الوضع وقبل الطفلة الصغيرة الجميلة ، لكن الدمعة افلتت على الرغم منه .. لقد اخذ ينظر الى الملامح الدقيقة للطفلة الوليدة المغمضة العينين .. ترى ما ذنبها ؟ انها لم تخلق نفسها .... هكذا الله خلقها انثى ... فلماذا يغضب مصطفى ويثور ؟؟ انه امر خارج عن ارادته تماماً ، وخارج عن ارادة زوجته .. وعن ارادة هذه الطفلة الصغيرة الجميلة التي لا يتجاوز وزنها الثلاثة كيلو غرامات .
وفكر مصطفى !! هل يكتفي بهذا القدر من البنات ويحدد النسل ، ام يستمر حتى يرزقه الله بالولد الصالح ، او بولي العهد كما يسميه الاصدقاء ؟ حسناً .. فليستمر .. وليمنح زوجته فرصة خامسة لعلها تنجب الولد المرتقب ، وطول ذلك العام كان مصطفى يسأل الاطباء عن صفات الجنس ، وكيف يكون الجنين ولداً وكيف يكون بنتاً ؟؟ وهل استطاع العلماء في حياة التجارب ان يفعلوا شيئاً يريح القلوب التعسة التي تبحث عن الابن الذي يحمل اسم ابيه ولقبه وثروته ؟؟ ولم يكتف بذلك بل اخذ يبحث في الكتب العلمية التي تتناول مثل هذه الموضوعات ، وكذلك المجلات المختلفة ،يلتقط الاخبار والتجارب الجديدة ... اصبحت هذه القضية شغله الشاغل ..
ودارت به الارض ، وصرخ قائلاً : (( مستحيل .. بنت خامسة ؟؟ ان الاقدار لا شك تنتقم مني ، انا لم افعل شيئاً استحق عليه مثل هذه العقوبة )).
واخذ يدق الارض بقدمه المتمردة الثائرة ، قالت له الحكيمة : (( ما لها البنت؟؟ انها الان تتعلم .. وتنتج .. وتعمل مثل الرجل تماماً. وانت؟؟ من اتت بك الى الدنيا ؟ إمرأة .. ألبس كذلك ؟؟ اتريد ان تتحدى المشيئة الالهية ؟؟ حاشا لله )) .
كان مصطفى في حال يرثى لها ، ومع ذلك فقد كان يفكر كيف ان الاحصاءات العالمية تؤكد انة نسبة الرجال اعلى من نسبة النساء ؟ فلماذا تختل النسبة في منزله هو بالذات .. الحريم مائة في المائة والرجال صفر .. هل كتب عليه ان يصحح الخلل الناجم في نسبة الذكور والاناث ؟؟؟ ولماذا لا تتجمع بويضات وحيوانات منوية ذات عوامل ذكورية ؟؟
حسناً .. فليستمر حتى يرى نهاية اللعبة ، ان العمر يتقدم به ، هو لم يزل يحلم بالولد الذي يحمل اسمه ويرث امواله ..
وحياته تظلم شيئاً فشيئاً.. وكثير من الاعراض المرضية اخذت تزحف عليه .. اصبح كل يوم يزور طبيباً من الاطباء ،تارة يشكو من خفقان اوضربات القلب المتزايدة .. وتارة اخرى يشكو من عسر الهضم .. او من ضيق التنفس .. او الارق ... او الاكتئاب .. واخذت غرفته تزداد بعدد العقاقير الطبية المتنوعة ..
وعندما رزق مصطفى بالبنت السادسة اصيب بانهيار عصبي نقل على اثرها الى احدى مصحات الامراض النفسية ، حيث قضى هناك شهراً كاملاً ، وكظمت زوجته اساها ،لم تكن تتكلم ، كانت تضم وليدتها الى صدرها في حنان ، وتبكي في صمت ولا تكاد تبين ..
في المرة السابعة ، لم يلق مصطفى بالاً لكل ما يجري حوله ، لقد بدا له ولمن معه ان احساسه ازاء هذه القضية قد تبلد .. لم يعد يكترث لما سيأتي او ستأتي .. سوف يقابل الحياة واحداثها بالسخرية والازدراء ، هكذا هي الحياة .. إذا ركلتها ركعت تحت قدميك ، وان تعشقها وذبت فيها حباً اهملتك وتركتك .. هكذا كان يحدث نفسه ..
الشيء الجديد هذه المرة ، ان زوجته عند الوضع اخذت تنزف .. كانت الدماء قليلة في البداية .. لكنها اخذت تزداد .. فسارع باستدعاء الطبيب .. وتم نقلها الى المستشفى ، واجريت لها عمليات نقل دم واسعافات مستعجلة ، لكن الاوان كان قد فات .. ماتت الزوجة .. بعد ان وضعت طفلا ًذكراً ميتاً..
ونظر مصطفى الى الجثتين في عتاب .. كان شاحب الوجه مرتجف الاوصال زائغ النظرات ، وقال في خضوع وتعاسة لا مثيل لها : (( لماذا ؟؟؟ تتركاني وحدي؟؟كنت اريدكما)) ..
وربتت على كتفه ابنته الكبرى .. وكان اخواتها الخمسة يقفن الى جوارها في طابور صغير .. ودموعهن على خدودهن .. وهم مصطفى ضمهنَّ جميعاً الى صدره ، وهو يتمتم :
((( انا لله وانا اليه راجعون )) ..
وصمت برهة ثم عاد يقول :
(( كنت كالظامئ طوال حياتي .. ومع الامي البشعة اشعر ان الله قد سكب في قلبي الان رضى من نوع غريب .. ولاحيلة لنا في امور تخرج عن نطاق ارادتنا كبشر )) ...
اتمنى من كل الاباء الاتعاض من الاب مصطفى .......
ضوء القمر